لجريدة عمان:
2023-12-03@01:29:17 GMT

أدب الضحيّة «2»

تاريخ النشر: 21st, November 2023 GMT

سؤالٌ أساسيّ ما زال يشغل الناظرين في الخطاب الأدبيّ وخاصّة السرديّ منه، هل أنّ الأدب يصنع العالم (كما رسّخ ذلك توماس بافل في نظريّة العوالم الممكنة) أو هو يصف العالم في رؤية ترفض أن يكون الأدب مُوهما بالواقع أو موهما بالحدوث، هي الرؤية التي ترفض أن يكون الأدب «مصنع مغالطات»، حيث يُدافع النقد على الحقيقة ويُعيد إلى الأدب وجهه التصويري للواقع، ذلك أنّ وسْم الأدب في هذا التصوّر بالإيهام هو تمتينٌ لصلته بالكذب.

هذا الأمرُ يحملنا على الوقوف على النظريتين المؤسّستين للرؤية الناسجة وللرؤية الناسخة، أمّا النظريّة الأولى، «نظريّة العوالم الممكنة» التي أثارها أساسا المناطقة وأهل فلسفة وأجراها النقد الأدبيّ خاصّة في المجال السرديّ، ومختَصَر هذه النظريّة أنّ الأدب يُعْملُ آلة التخييل لتمثيل عوالم ممكنة، قد تُشابه العالم المرجعيّ وتتّصل به بأسباب، وقد تُناظره أو تصدر عنه. ويُعتَبر الفيلسوف الألماني ليبنتز (Leibniz) أوّل من استخدم مصطلح «العوالم الممكنة» مشيرا إلى أنّ عالمنا المتحقّق هو واحد من عوالم ممكنة لا متناهية، وأنّ هذا العالم الذي اختاره اللّه لنا هو أفضلها وأحسنها وأنسبها للإنسان! ومن هذا المنطلق تعدّدت مقاربات العوالم الممكنة وتلقّى نقّاد الأدب هذه الفكرة للعودة إلى إعمال ثنائيّة التخييلي والمرجعي وثنائيّة الصدق والكذب في الأدب، وفق منظور سائد مفاده أنّ الكتابة السرديّة التقليديّة كان همّها الأساس الإيهام بالواقع والاجتهاد في الاقتراب منه و»عكسه»، وأنّ الكتابة السرديّة الحديثة تنصرف إلى الميتاسرد، فهي تصنَع عوالمها بأدوات تختلف عن أدوات الواقع وبالتالي فهي تُقيم عوالم ممكنة تخصّ الشعور والإدراك والأحلام وممكن الحياة عموما (ويُمكن أن أحيل إلى قسمٍ من الأعمال النظريّة الرائدة في المجال النقدي: توماس بافيل: «نظرية العوالم الممكنة وعلم دلالة الأدب»- دافيد لويس: «الحقيقة في التخييل-ولوسيا فاينا «نظرية العوالم الممكنة والسيميوطيقا النصية»).

أمّا النظريّة الثانية فهي التي يرعاها التسجيليّون المؤمنون بنمط من الأدب يُسجّل الواقع وهو راصِدٌ لحركته ومظاهره، ليصبِح الأدب «شاهدا» فاضحا معرّيا للواقع، ومن هنا تنفتح الكوّة القديمة لصلة الواقع بالأدب، وصلة الأديب بالأخلاق، فما الذي أدرانا (كما أوضح ذلك العديد من المؤرّخين ومنهم روجيه غارودي) أنّ محرقة اليهود قد وقعت بهذا الشكل؟ وما أدرانا أنّ الشاهد الأديب صادقٌ في ما يقصّه ويكتبه؟ وهنا يذهب فرانسوا راستيه، منظّرُ هذا التوجّه إلى أنّ أخلاق الشهادة الأدبيّة تصبح مفيدة وضروريّة»، حتّى يتنزّل الخطاب الأدبي السارد منزلة «المرآة» أو العين الواصفة للوقائع، المسجّلة لها. هذا التوجّه يُحوّل الأدب في جزء مهمّ منه إلى أدب شهادة، يدنو من «الموضوعيّة، ويكون الكاتب فيه بمنأى عن تجسيد البطولة أو تغليب المنظور الذاتي، وبمقرب من إعمال الموضوعيّة ووضع «الجريمة في الفضاء المشترك للإنسانيّة». نتج هذا التصوّر للأدب عن رؤيتين في تاريخ الأدب، الرؤية الأولى ماثلة أساسا في النقديّة التسجيليّة التقليديّة التي ترى في الأدب توثيقا وتسجيلا للوقائع، وقد مثّل هذه الرؤية النقديّة في أدبنا العربي شوقي ضيف، والرؤية الثانية هي التي اهتمّت بالأدب الشاهد.

إنّ هذا التجاذب النقدي الثنائيّ بين تصوّر للأدب يؤسّس عوالم ممكنة بلغة يُمكن أن تُحيل إلى مرجع، أدب ينسج عالما، وتصوّر للأدب ينسخ عالما متحقّقا، يحاكيه ولا يحوكه، أفضى إلى إنتاج قراءات للأدب تتراوح بين الصدق والكذب، بين المطابقة والتخييل. في أيّامنا هذه، بعد أهوال حرب غزّة، أعتقد أنّ هذه الثنائيّة ستتحطّم، وأنّ الأدب ونقده ومن ورائهما الفلسفة والمنطق، ستتبدّد مفاهيمهم أمام صخرة اجتمع فيها الخيال والواقع، في غزّة نرى الواقع والخيال في الآن ذاته، أصبحت واقعيّة الخيال أشدّ من تشييد قديمِ التصوّر للخيال لعوالم ممكنة. حرب غزّة ستكون نقطة مفصليّة في تاريخ الفكر الحديث وسينعكسُ هذا حتما على الأدب. لقد قام العصرُ الحديث على حقائق إنسانيّة مُطلقة، تركّز فيها المحور الأوروبي والغربي عموما حاميا لحقوق الإنسان ولمفاهيم العدل والحريّة والكرامة الإنسانيّة، أصبح التفكير الحرّ مكسبا غربيّا لا يُمكن التفكير في تهاويه أو التراجع عنه، وفقدت شعوب من ثالث العالم أعمارا وأجيالا وشبابا ومفكّرين في سبيل الاقتداء بالغربي المتحرّر في فكره، وها هي غزّة تُفْقِدُ العالم الغربيّ كسْبه التاريخيّ، ليُمنَع في بلاد الضياء والتعقُّل ذكرُ بلدٍ مُسْتَعمَر وهو فلسطين أو رفع علمه أو نُصْرَته أو الدعوة إلى تحرّره. كشفت حربُ غزّة أنّ العالم الأبيض ينتصرُ لملّته ولمُعتقده فقط، وأنّ الصراع الكونيّ التاريخي هو صراعٌ عَقَديّ، وأنّ وجها مطليّا بالزيف والمكْر قد بانت حقائقُه، وأنّ البشر نوعان، هم ونحن. ماذا بقي للفكر لعقلنَة العوالم الممكنة أو لنسخ عالم له وجه ظاهرٌ وأوجه مخفيّةٌ، له ظاهرٌ وبواطن؟ العوالم المنسوجة والعوالم المنسوخة ضاعت في ظلّ تبدّلٍ في «منظور» الجهة «الحُلم» التي أضحت الجهة «الكابوس». لقد كان الغرب بؤرة حُلم ومرجعيّة للعالم الممكن المتحضّر، فتكشّفت منه وحشيّة تفوق تخيّل الفنّان، هذا العالم الغربيّ الذي حمل لواء «الإنسان الإنسان» صار حاملا لواء إنسان من درجة أولى ولا شيء من بعده. لقد ذهب في ظنّنا أنّ الغرب انتهى من حقوق الإنسان، وكنّا نحسده على ذلك، وكنّا نظنّ أنّه تفرّغ إلى حقوق الحيوان، وإلى حقوق النبات، صاغرين كُنّا، وسذّجا، ألقينا من جرابنا الغزالي وابن رشد وابن سينا، واهتدينا بديكارت وبكانط وبهيجل، تخلّينا عن امرئ القيس وعن تأبّط شرّا، تخلّينا عن الشنفرى وقسمه، تخلّينا عن مؤانستنا، وعن «مغازينا»، واهتدينا ببلزاك، وحفظنا «البؤساء»، وسرنا خلف شكسبير وفيكتور هيجو وإرنست هيمنجواي، ولكن «لمن تقرع الأجراس؟». حربُ غزّة دقّت -على الأقلّ بالنسبة إلى شريحة من جيلي- جرس التنبيه أنّ خللا في الكون ماثل، أنّ أساسا يُمكن أن يُنسى بسرعة أو أنّ سلطة معرفيّة في الكون قادرة على الكذب والكذب حتّى يصبح الكذب واقعا وليس ممكنا.

المُعادلة البسيطة التي يريدوننا أن ننساها، أنّ فلسطين مُستعمَرة وأنّ الكيان الإسرائيلي مستعمِر، تغيير هذه السرديّة باعثٌ لقصّة جديدة، هل يقدر العالم الغربي على كتابتها؟ لهذا فإنّ قطيعةً معرفيّة ممكنة التولّد من مشاهد تقتيل الأطفال وقطْع الأوكسيجين عن الرُضّع في المستشفيّات، وتقتيل اللاّجئين في المدارس. القتل الوحشيّ الذي صار سافرا مكشوفا -ولا حجّة لمن يدّعي غياب المعلومة- هو وجه البشريّة المتحضّرة المعقلنة الحقيقيّ. ما يأتيه بنو صهيون اليوم من فعلٍ فاحش، هو في عمق الأمر فعلٌ ناتج عن «وجهة النظر» الغربيّة في إقامة سردٍ جديد بصدد التشكّل، سردُ المظلوميّة، سرد الضحيّة، وليس المقصود بالضحيّة في هذا المقام أبناء فلسطين الذين نُكِّل بهم تجويعا وتقتيلا وذبحا للرُضّع والمرضى، وليس المقصود بالضحيّة العالم العربيّ الذي اعترته «دهشة» فلسفيّة مكتومة، وليس الضمير الكوني الذي يغطّ في سُباتٍ دوغمائي عَمِهٍ وعميٍّ وعييٍّ، بل المقصود بالضحيّة الشعوب التي كانت مستعدّة للتضحيّة بالحياة في سبيل أن تعيش الأجيال القادمة «الحُلم» الغربي، الحُلم في التفكير الحرّ، الحُلم في الرأي الحرّ، الحُلم في تحقّق الإنسانيّة. يحتاج الكون إلى مفاهيم فلسفيّة جديدة عن العدالة، عن معنى الإنسان، عن معنى الوجود، والأهمّ من كلّ ذلك نحتاج إلى فلسفة عربيّة تُسْقِط المرجعيّة الفكريّة الغربيّة وتَهدِمُ سُلطة المحور والهامش.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: النظری ة

إقرأ أيضاً:

اليوم.. ليلة الأدب الأوروبي بمعهد جوته

تنظم دار صفاصفة للنشر والتوزيع الحدث الثقافي الاستثنائي "ليلة الأدب الأوروبي" وذلك  بمشاركة كلا من سفارة جمهورية التشيك في القاهرة، والمراكز التشيكية، ومعهد جوته بالقاهرة، وسفارة جمهورية سلوفاكيا بالقاهرة، ومؤسسة الادب النرويجي - NORLA، وذلك اليوم  الموافق 2 ديسمبر الجاري في تمام الساعة السادسة مساء في عدة أماكن بحي الدقي. 
وتقام ليلة الأدب الأوروبي في مصر للسنة الثانية على التوالي، ويجمع هذا الحدث الأشخاص المهتمين بالأدب لاكتشاف وتقدير أعمال المؤلفين المعاصرين من أربع دول أوروبية.

كما تتم قراءات مخصصة لمؤلفين مهمين يمثلون تنوع المشهد الأدبي الأوروبي.  يتم تمثيل جمهورية التشيك بمقتطف من كتاب "بطاقة ترامب" للكاتبة بيترا هولوفا.
ومن سلوفاكيا نقدم كتاب إيفانا دوبراكوفا "تحت شمس تورينو"، ويتم تمثيل النرويج من خلال كتاب فيجديس هيورث "الوصية والعهد" وألمانيا من خلال "إنسان يحترق" من نيكول ليوبيتش.
وتقرأ المقتطفات باللغة العربية أدباء مصريين مرموقين، مثل نورا ناجي، أو طارق إمام، أو صفاء الزياني، أو نشوى صلاح.

وعبر  محمد البعلي ممثل دار صفصافة للنشر عن سعادته بانطلاق الدورة الثانية من ليلة الادب الأوروبي قائلا: "أنا سعيد بهذا الحدث لأنه يلعب دورا حاسما في رفع مستوى الوعي بالأدب الأوروبي، وتعد هذه الشراكة بمثابة عنصر محوري في تعزيز التعددية اللغوية والتأكيد على أهمية الترجمات من مختلف اللغات هنا في مصر، علاوة على ذلك، فإن حضور الكاتبة التشيكية بيترا هولوفا شخصيًا في الحدث يضيف لمسة مميزة، مما يوفر فرصة فريدة للجمهور المصري للتفاعل شخصيًا مع المؤلفة.

كما تتاح للمشاركين فرصة رؤية المواقع المختلفة في منطقة الدقي حيث تتم القراءات.  وتتخلل الفعالية لعبة تضيف عنصرا تفاعليا وتعزز أجواء الأمسية الأدبية.  أولئك الذين يزورون جميع الأماكن ويجمعون التذاكر كلها سيحصلون على ترجمات عربية للأعمال الأدبية من صفصافة للنشر وهدايا صغيرة أخرى من الدول المشاركة.

تقول تيريزا سفاشكوفا، منسقة المشروع: يعود تاريخ المشروع بأكمله إلى عام 2006. وعلى مر السنين، تطور ليصبح قوة حيوية للترويج للأدب الأوروبي ويحظى باهتمام مستحق من الأوساط الأدبية والجمهور الأوسع.
وفي نسختنا الثانية في القاهرة، سنقدم الشكر للشريك الجديد NORLA أيضًا الأدب النرويجي.

سيتم تنظيم القراءات في وقت واحد في الساعة 6 مساءً، و7 مساءً، و8 مساءً، و9 مساءً في ثلاثة أماكن - جميعها على مسافة قريبة في الدقي: بوكليت، وكرياتيفو، ومعهد جوته بالقاهرة في الدقي (قاعتان).

مقالات مشابهة

  • لطلبة المتوسطة.. “موهبة” تطلق برنامج “جيل الأدب”
  • اليوم.. ليلة الأدب الأوروبي بمعهد جوته
  • سفير مصر بتونس: قدمنا كل التسهيلات الممكنة للمصوتين في الانتخابات الرئاسية
  • سفير مصر بتونس: قدمنا كل التسهيلات الممكنة للمصوتين في الانتخابات الرئاسية.. فيديو
  • سفير مصر بتونس: قدمنا كل التسهيلات الممكنة للمصوتين في انتخابات الرئاسة (فيديو)
  • وفد عماني يزور "موهبة" للاستفادة من تجربتها
  • صور.. إطلاق برنامج "جيل الأدب" لتنمية مهارات الطلبة
  • مدرسة الديوان وذكرى الأديب عبد الرحمن شكري في نقاشات نادي أدب بورسعيد
  • واستمرت دائرة المأساة في الحياة والفن
  • مديرية العمل بالإسماعيلية تتعاون مع التعليم في التدريب والسلامة المهنية